كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتكرير حرف إن بعد واو العطف إيماء إلى اختلاف المعطوف والمعطوف عليه بأن المراد بالمعطوف عليه ذاتُ الكتاب، والمرادَ بالمعطوف معناه وما اشتمل عليه، كما تقول: إن فلانًا لحسن الطلعة وإنه لزكيّ.
وهذا من خصوصيات إعادة العامل بعد حرف العطف مع إغناء حرف العطف عن ذكر العامل، ونظيره قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمرِ منكم} [النساء: 59]، أعيد {أطيعوا} لاختلاف معنى الطاعتين، لأن طاعة الله تنصرف إلى الأعمال الدينية، وطاعة الرسول مراد بها طاعته في التصرفات الدنيوية، ولذلك عُطف على الرسول أولو الأمر من الأمة.
وقوله: {إنه من سليمان} حكاية لمقالها، وعرفت هي ذلك من عنوان الكتاب بأعلاه أو بظاهره على حسب طريقة الرسائل السلطانية في ذلك العهد في بني إسرائيل، مثل افتتاح كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك بجملة: مِن محمد رسول الله.
وافتتاح الكتاب بجملة البسملة يدل على أن مرادفها كان خاصًا بكُتُب النبي سليمان أن يُتبع اسم الجلالة بوصفي: الرحمان الرحيم، فصار ذلك سنة لافتتاح الأمور ذوات البال في الإسلام ادخره الله للمسلمين من بقايا سنة الأنبياء بعد أن تنوسي ذلك فإنه لم يعرف أن بني إسرائيل افتتحوا كتبهم باسم الله الرحمن الرحيم.
روى أبو داود في كتاب المراسيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب «باسمك اللهم» كما كانت قريش تكتب، فلما نزلتْ هذه الآية صار يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، أي صار يكتب البسملة في أول كتبه.
وأما جعلها فصلًا بين السور أو آية من كل سورة فمسألة أخرى.
وكان كتاب سليمان وجيزًا لأن ذلك أنسب بمخاطبة من لا يحسن لغة المخاطب فيقتصر له على المقصود لإمكان ترجمته وحُصول فهمه فأحاط كتابه بالمقصود، وهو تحذير ملكة سبأ من أن تحاول الترفع على الخضوع إلى سليمان والطاعة له كما كان شأن الملوك المجاورين له بمصر وصور والعراق.
فالإتيان المأمور به في قوله: {وأتوني مسلمين} هو إتيان مجازي مثل ما يقال: اتبع سبيلي.
و{مسلمين} مشتق من أسلم إذا تقلد الإسلام.
وإطلاق اسم الإسلام على الدين يدل على أن سليمان إنما دعا ملكة سبأ وقومها إلى نبذ الشرك والاعتراف لله بالإلهية والوحدانية ولم يدعهم إلى اتباع شريعة التوراة لأنهم غير مخاطبين بها وأما دعوتهم إلى إفراد الله بالعبادة والاعتراف له بالوحدانية في الإلهية فذلك مما خاطب الله به البشر كلهم وشاع ذلك فيهم من عهد آدم ونوح وإبراهيم.
وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى: {فلا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون} في سورة البقرة (132)، قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} [يس: 60].
جمع سليمان بين دعوتها إلى مسالمته وطاعته وذلك تصرف بصفة الملك، وبين دعوة قومها إلى اتباع دين التوحيد وذلك تصرف بالنبوءة لأن النبي يلقي الإرشاد إلى الهُدى حيثما تمكَّن منه كما قال شعيب.
{إنْ أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ} [هود: 88] وهذا نظير قول يوسف لصاحبي السجن {أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39] الآية.
وإن كان لم يرسل إليهم، فالأنبياء مأمورون أمرًا عامًا بالإرشاد إلى الحق، وكذلك دعاء سليمان هنا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من حُمْر النعم» فهذه سنة الشرائع لأن الغاية المهمة عندها هو إصلاح النفوس دون التشفي وحب الغلبة.
وحرف أنْ من قوله: {أن لا تعلوا عليّ} في موقعه غموض لأن الظاهر أنه مما شمله كتاب سليمان لوقوعه بعد البسملة التي هي مبدأ الكتاب.
وهذا الحرف لا يخلو من كونه أن المصدرية الناصبة للمضارع، أو المخففة من الثقيلة، أو التفسيرية.
فأما معنى أَنْ المصدرية الناصبة للمضارع فلا يتضح لأنها تستدعي عاملًا يكون مصدرُها المنسبك بها معمولًا له وليس في الكلام ما يصلح لذلك لفظًا مطلقًا ولا معنى إلا بتعسف، وقد جوزه ابن هشام في مغني اللبيب في بحث أَلاّ الذي هو حرف تحضيض وهو وجهة شيخنا محمد النجار رحمه الله بأن يُجعل {أن لا تعلوا} إلخ خبرًا عن ضمير {كتاب} في قوله: {وإنه} فحيث كان مضمون الكتاب النهيَ عن العلو جُعل {أن لا تعلوا} نفسَ الكتاب كما يقع الإخبار بالمصدر.
وهذا تكلف لأنه يقتضي الفصل بين أجزاء الكتاب بقوله: {بسم الله الرحمن الرحيم}.
وأما معنى المخففة من الثقيلة فكذلك لوجوب سدّ مصدر مسدّها وكونها معمولة لعامل، وليس في الكلام ما يصلح لذلك أيضًا.
وقد ذكر وجهًا ثالثًا في الآية في بعض نسخ مغني اللبيب في بحث أَلاَّ أيضًا ولم يوجد في النسخ الصحيحة من المغني ولا من شروحه ولعله من زيادات بعض الطلبة.
وقد اقتصر في الكشاف على وجه التفسيرية لعلمه بأن غير ذلك لا ينبغي أن يفرض.
وأعقبه بما روي من نسخة كتاب سليمان ليظهر أن ليس في كتاب سليمان ما يقابل حرف أنْ فلذلك تتعين أنْ لمعنى التفسيرية لضمير {وإنه} العائد إلى {كتاب} كما علمته آنفًا لأنه لما كان عائدًا إلى {كتاب} كان بمعنى معاده فكان مما فيه معنى القول دون حروفه فصح وقع أَنْ بعده فيكون أَنْ من كلام ملكة سبأ فَسَّرَتْ بها وبما بعدها مضمون {كتاب} في قولها: {ألقى إلى كتاب كريم}.
و{ألا تعلوا عليّ} يكون هو أول كتاب سليمان، وأنها حكاية لكلام بلقيس.
قال في الكشف يتبين أن قوله: {إنه من سليمان} بيان لعنوان الكتاب وأن قوله: {وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} إلخ بيان لمضمون الكتاب فلا يرد سؤال كيف قدم قوله: {إنه من سليمان} على {إنه بسم الله الرحمن الرحيم}.
ولم تزل نفسي غير منثلجة لهذه الوجوه في هذه الآية ويخطر ببالي أن موقع أَنْ هذه استعمال خاص في افتتاح الكلام يعتمد عليه المتكلم في أول كلامه.
وأنها المخففة من الثقيلة.
وقد رأيتُ في بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم الافتتاح بأنْ في ثاني خُطبة خطبها بالمدينة في سيرة ابن إسحاق.
وذكر السهيلي: أَنَّ الحمدُ، مضبوط بضمة على تقدير ضمير الأمر والشأن.
ولكن كلامه جرى على أن حرف إن مكسور الهمزة مشدد النون.
ويظهر لي أن الهمزة مفتوحة وأنه استعمال لأنْ المخففة من الثقيلة في افتتاح الأمور المهمة وأن منه قوله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10].
و{ألا تعلوا عليّ} نهي مستعمل في التهديد ولذلك أتبعته ملكة سبأ بقولها: {يا أيها الملأ أفتوني في أمري} [النمل: 32].
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)}.
سألتْهم إبداء آرائهم ماذا تعمل تجاه دعوة سليمان.
والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا مثل التي قبلها.
والإفتاء: الإخبار بالفَتوى وهي إزالة مشكل يعرض.
وقد تقدمت عند قوله تعالى: {قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان} في سورة يوسف (41).
والأمر: الحال المهم، وإضافته إلى ضميرها لأنها المخاطبة بكتاب سليمان ولأنها المضطلعة بما يجب إجراؤه من شئون المملكة وعليها تبعة الخطأ في المنهج الذي تسلكه من السياسة، ولذلك يقال للخليفة وللملك وللأمير ولعالم الدين: وَليُّ الأمر.
وبهذه الثلاثة فُسِّر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59].
وقال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان:
أَوَليَّ أمرِ اللَّه إنا مَعشر ** حُنفاء نسجد بكرة وأصيلًا

فهذا معنى قولهم لها: {والأمرُ إليك} [النمل: 33].
وقد أفادت إضافة {أمري} تعريفًا، أي في الحادثة المعيَّنة.
ومعنى {قاطعة أمرًا} عاملةً عملًا لا تردد فيه بالعزم على ما تجيب به سليمان.
وصيغة {كنت قاطعة} تؤذن بأن ذلك دأبها وعادتها معهم، فكانت عاقلة حكيمة مستشيرة لا تخاطر بالاستبداد بمصالح قومها ولا تعرِّض ملكها لمهاوي أخطاء المستبدين.
والأمر في {ما كنت قاطعة أمرًا} هو أيضًا الحال المهم، أي أنها لا تقضي في المهمات إلا عن استشارتهم.
و{تَشهدون} مضارع شَهِد المستعمل بمعنى حَضر كقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر} [البقرة: 185]، أي حتى تَحْضُرون.
وشهد هذا يتعدى بنفسه إلى كل ما يحضر فاعل الفعل عنده من مكان وزمان واسم ذات، وذلك تعدّ على التوسع لكثرته، وحق الفعل أن يُعدى بحرف الجر أو يعلق به ظرف.
يقال: شهد عند فلان وشهد مجلس فلان.
ويقال: شهد الجمعة.
وفعل {تشهدون} هنا مستعمل كناية عن المشاورة لأنها يلزمها الحضور غالبًا إذ لا تقع مشاورة مع غائب.
والنون في {تشهدون} نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم تخفيفًا وألقيت كسرة النون المجتلبة لوقاية الحرف الأخير من الفعل عن أن يكون مكسورًا، ونون الوقاية دالة على المحذوف.
وقرأه الجمهور بحذف الياء وصلًا ووقفًا.
وقرأ يعقوب بإثبات الياء وصلًا ووقفًا.
وفي قولها: {حتى تشهدون} كناية عن معنى: توافقوني فيما أقطعه، أي يصدر منها في مقاطع الحقوق والسياسة: إما بالقول كما جرى في هذه الحادثة، وإما بالسكوت وعدم الإنكار لأن حضور المعدود للشورى في مكان الاستشارة مغن عن استشارته إذ سكوته موافقة.
ولذلك قال فقهاؤنا: إن على القاضي إذا جلس للقضاء أن يقضي بمحضر أهل العلم، أو مشاورتهم.
وكان عثمان يقضي بمحضر أهل العلم وكان عُمر يستشيرهم وإن لم يَحضروا.
وقال الفقهاء: إن سكوتهم مع حضورهم تقرير لحكمه.
وليس في هذه الآية دليل على مشروعية الشورى لأنها لم تحك شَرعًا إلهيًا ولا سيق مساق المدح، ولكنه حكاية ما جَرى عند أمة غير متدينة بوحي إلهي؛ غير أن شأن القرآن فيما يذكره من القَصص أن يذكر المهم منها للموعظة أو للإسوة كما قدمناه في المقدمة السابعة.
فلذلك يستروح من سياق هذه الآية حسن الشورى.
وتقدم ذكر الشورى في سورة آل عمران.
{قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)}.
جواب بأسلوب المحاورة فلذلك فُصل ولم يعطف كما هي طريقة المحاورات.
أرادوا من قولهم: نحن، جماعة المملكة الذين هم من أهل الحرب.
فهو من إخيار عرفاء القوم عن حال جماعاتهم ومن يفوض أمرهم إليهم.
والقوة: حقيقتها ومجازها تقدم عند قوله تعالى: {فخذها بقوة} في سورة الأعراف (145).
وأطلقت على وسائل القوة كما تقدم في قوله تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة} في سورة الأنفال (60)، أي وسائل القدرة على القتال والغلبة، ومن القوة كثرة القادرين على القتال والعارفين بأساليبه.
والبأسُ: الشدة على العدوّ، قال تعالى: {والصابرين في البأساء والضراء وحينَ البأس} [البقرة: 177] أي في مواقع القتال، وقال: {بأسهم بينهم شديد} [الحشر: 14]، وهذا الجواب تصريح بأنهم مستعدون للحرب للدفاع عن ملكهم وتعريض بأنهم يميلون إلى الدفع بالقوة إن أراد أن يكرههم على الدخول تحت طاعته لأنهم حملوا ما تضمنه كتابه على ما قد يفضي إلى هذا.
ومع إظهار هذا الرأي فوّضوا الأمر إلى الملكة لثقتهم بأصالة رأيها لتنظر ما تأمرهم فيمتثلونه، فحذف مفعول {تأمرين} ومتعلقه لظهورهما من المقام، والتقدير: ما تأمريننا به، أي إن كان رأيك غير الحرب فمُري به نُطعك.
وفعل {انظري} معلق عن العمل بما بعده من الاستفهام وهو {ماذا تأمرين}.
وتقدم الكلام على {ماذا} في قوله: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم} في سورة النحل (24). اهـ.